السبت، 18 ديسمبر 2010

بقلم / د. سعد الدين إبراهيم .. انتخابات أمريكية.. بلا حوار حول السياسة الخارجية

تشهد أمريكا انتخابات كل سنتين لمجلس النواب، ولثلث مجلس الشيوخ، وكل أربع سنوات للرئاسة. والثلاثاء الأول من شهر نوفمبر، هو موعد كل من هذه الانتخابات، وبالتالى كان الثلاثاء الماضى، الثانى من نوفمبر، هو موعد إحدى هذه الانتخابات النصفية.

وقد رصد المُراقبون أن الذين خاضوا تلك الانتخابات هذا العام، قد أنفقوا على الدعاية أكثر من ثلاثة مليارات دولار، وهو رقم قياسى غير مسبوق، رغم أن المعركة لم تش&atc;شمل انتخابات رئاسية. كذلك رصد المُراقبون أن هذه الانتخابات النصفية، هى الأكثر شراسة فى التاريخ الأمريكى (٣٣٤ سنة). وقد فاز الجمهوريون فيها بأغلبية مقاعد مجلس النواب. ولكن حزب أوباما «الديمقراطيون» أخفقوا.

وضمن ما تميزت به معركة هذه الانتخابات النصفية ظاهرتان لحركتين شعبيتين متضادتين، الأولى هى «حركة حفلة الشاى» (The Tea Party movement)، والثانية هى «حركة مُناهضة الخوف» (The Anti fear movement). والحركة الأولى مُحافظة، تدعى الغيرة على «الحلم الأمريكى» (The American Dream)، الذى بدأ مع الثورة الأمريكية ضد بريطانيا، التى كانت الدولة المُستعمرة للقارة الأمريكية الشمالية.

وضمن ما كان يستفز المستوطنين البيض (وهم من أصول أوروبية) أن الحكومة البريطانية فى لندن كانت تفرض عليهم ضرائب تعسفية، دون أن يكون لهم «حق المواطنة».. ومن ذلك فرض ضريبة عالية على الشاى المستورد من جُزر الهند الغربية إلى ميناء بوسطن. فما كان من المستوطنين الأوروبيين إلا أن ألقوا بحمولة الشاى، التى كانت تحملها البواخر فى ميناء بوسطن.

وكانت تلك هى الشرارة الأولى للثورة الأمريكية، ولحرب الاستقلال (١٧٧٦-١٧٨١)، التى قادها جورج واشنطن، وانتهت بإعلان الاستقلال. وعُرفت تلك الشرارة الأولى على سبيل الدُعابة بـ«حفلة الشاى فى بوسطن».

وهناك قطاع من المُحافظين فى الولايات المتحدة يعتبرون انتخاب باراك أوباما رئيساً بمثابة خسارة للاستقلال، فالرجل فى نظرهم من أصول أجنبية (فأمه من أيرلندا.. وأبوه من كينيا)، فضلاً عن أنه وُلد فى جزيرة هاواى، التى لم تكن ولاية أمريكية بعد، فى ذلك الوقت. ومن تلك الحيثيات يعتبرونه «دخيلاً» عليهم.

وكـ«أجنبى دخيل»، فمن حقهم إزاحته من السُلطة، بانتفاضة شعبية مُماثلة لتلك التى حدثت قبل ٣٣٤ سنة، وأعطوها نفس الاسم «حفلة الشاى» ونظموا أنفسهم فى مسيرة كبيرة من كل أنحاء أمريكا إلى العاصمة واشنطن منذ أسبوعين.

وفى مواجهة حركة حفلة الشاى، دعا نجمان من نجوم البرامج الحوارية التليفزيونية، هما: «جيمس ستيوارت» و«ستيفن كولبير» إلى مسيرة مُضادة أطلقا عليها «حركة مُناهضة الخوف» لدعم ثقة الأمريكيين فى بعضهم البعض، والاحتفاء والاحتفال بالتنوع والاختلاف. وشارك فى هذه الحركة المُضادة ضعف العدد الذى شارك فى «حفلة الشاى». كما شارك فيها عدد كبير من نجوم الموسيقى والطرب، وتجمّعوا فى نفس المكان، وهو حول «نُصب واشنطن التذكارى»، وكان الحدث أكثر صخباً وبهجة.

وقد تزامن توقيت المسيرتين (حفل الشاى ومُناهضة الخوف) مع اقتراب الانتخابات النصفية. ورغم ما انطوت عليه المسيرتان من استقطاب للرأى العام الأمريكى، فإن المُدهش هو أنه لم يقع فى أى منهما حادث عُنف واحد، وهو ما ينطوى بدوره على حيوية النظام المُجتمعى الأمريكى، الذى يُجدد نفسه دورياً.

وفى هذه الأجواء المليئة بالشعارات والحركات والمُساجلات التنافسية جرت الانتخابات النصفية، التى أبلى فيها الحزب الجمهورى المُعارض بلاء حسناً، حيث فاز بأغلبية مقاعد مجلس النواب (٥٢% مُقابل ٤٨%)، ولكن الحزب الديمقراطى احتفظ بأغلبية مقاعد مجلس الشيوخ (٥٤% مقابل ٤٦%). ومن المعروف أن إقرار أى تشريع يحتاج إلى أغلبية المجلسين منفردين، أو أغلبيتهما معاً.

وهذا يعنى أنه رغم أن الرئيس أوباما، لايزال على رأس الحزب الديمقراطى، فإنه لكى يُصدر أى تشريع فى السنتين المقبلتين (٢٠١١-٢٠١٢)، فلابد أن يحظى بأصوات من نواب الحزب الجمهورى المُعارض.. وهو ما يعنى فى مُعظم الأحيان كثيراً من المُساومات والتوافقات بين مُمثلى الحزبين. ويبدو أن هذا كان مقصوداً ممن يُطلق عليهم «الآباء المؤسسون» للنظام السياسى الأمريكى، الذى يجعل حزب الأغلبية فى حاجة، بين الحين والآخر، لأصوات حزب الأقلية فى الكونجرس، بصرف النظر عن الحزب الذى ينتمى إليه الرئيس.

أما السبب الرئيسى فى احتدام المُنافسة بشكل غير مسبوق فى هذه الانتخابات النصفية، فهو أنها فى نظر أنصار الحزبين، وفى نظر المُراقبين المُحايدين، تُعتبر «بروفة» مُبكرة للانتخابات الرئاسية عام ٢٠١٢، والتى سيسعى الحزب الجمهورى فيها إلى أن يستعيد «البيت الأبيض» ــ أى «الرئاسة» ــ من الحزب الديمقراطى. وهذا معناه أن يجعل الجمهوريون من باراك أوباما رئيساً لفترة واحدة (٢٠٠٨-٢٠١٢)، مثلما حدث من قبل مع الرئيس الأسبق جيمى كارتر (١٩٧٦-١٩٨٠).. وطبعاً، سيُحاول الديمقراطيون العكس.

إن هذا الانشغال المُبكر بالمعركة الرئاسية المقبلة، هو فى جزء كبير منه استنهاض «لأمريكا البيضاء»، فى مواجهة «أمريكا الملونة»، فالأمريكيون البيض لم يعودوا هم الأغلبية، فنسبتهم الآن لم تعد تتجاوز الخمسين فى المائة. فرغم أنهم لايزالون «الأكثرية» (أى المجموعة الأكبر)، وهى ٤٨%، إلا أنهم لم يعودوا الأغلبية (أى ٥٠%+١). ولعل الأقلية الصاعدة فى أمريكا الآن هى الأقلية «اللاتينية»، أى ذوى الأصول الإسبانية والإيطالية. وهؤلاء لا هم بيض ولا سود، لكن ذوو بشرة «خمرية».

وكان هذا الانكفاء على الذات الأمريكية الداخلية سبباً فى غياب «السياسة الخارجية» فى سجالات الانتخابات النصفية هذا العام. فرغم أن أمريكا متورطة فى حربين، فى كل من العراق وأفغانستان، فإن هذا الكاتب لم يعثر على أى سجال حولهما بالمرة فى انتخابات ٢٠١٠، وهذا يحدث لأول مرة فى المائة سنة الأخيرة.

ويمكن تفسير هذا الغياب بأن هناك توافقاً بين الحزبين على السياسة الخارجية. وليس هذا بمستغرب فى معظم بُلدان الديمقراطيات الغربية. ففى كل من العراق وأفغانستان، كان الذى بدأ الغزو العسكرى رئيسا من الحزب الجمهورى (وهو جورج بوش). وها هو رئيس من الحزب الديمقراطى (باراك أوباما) يستمر فى إدارة الحربين نفسيهما، فالمصالح الاستراتيجية للدولة تتجاوز الخلافات والمُنافسات الحزبية. ولله فى الديمقراطيات كل العجائب والمُفارقات. ولكن حسناتها تجبّ سيئاتها بكثير.

فسبحان الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق